فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

ومعنى {ولأضِلَّنَّهم} إضلالهم عن الحق.
ومعنى: {ولأمنّينَّهم} لأعدنَّهم مواعيد كاذبة، ألقيها في نفوسهم، تجعلهم يتمنّون، أي يقدّرون غير الواقع واقعًا، أغراقًا، في الخيال، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم.
يقال: منَّاه، إذا وعده المواعيد الباطلة، وأطمعه في وقوع ما يحبّه ممّا لا يقع، قال كعب:
فلا يغرنك ما منّت وما وعدت

ومِنه سمّي بالتمنّي طلبُ ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر.
ومعنى: {ولآمرنّهم فليبتْكن آذان الأنعام} أي آمرنّهم بأن يبتّكوا آذان الأنعام فليبتّكنها، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين، فحذف مفعول أمَرَ استغناء عنه بما رُتّب عليه.
والتبتيك: القطع.
قال تأبّط شرًا:
ويجعلُ عينيه رَبيئَةَ قلبه ** إلى سَلّةٍ من حدّ أخلَقَ باتك

وقد ذكر هنا شيئًا ممّا يأمر به الشيطان ممّا يخصّ أحوال العرب، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم، علامة على أنّها محرّرة للأصنام، فكانوا يشقّون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة، فكان هذا الشقّ من عمل الشيطان، إذ كان الباعثُ عليه غرضًا شيطانيًا.
وقوله: {ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله} تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي، وهو البعير الذي حمَى ظهرَه من الركوب لكثرة ما أنْسَل، ويسيّب للطواغِيت.
ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشْم إذ أرادوا به التزيّن، وهو تشويه، وكذلك وسم الوجوه بالنار.
ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية.
كجعل الكواكب آلهة.
وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام، الذي هو دين الفطرة، والفطرة خلق الله؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله.
وليس من تغيير خلق الله التصرّف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن؛ فإنّ الختان من تغيير خلق الله ولكنّه لفوائد صحيّة، وكذلك حَلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار، وتقليمُ الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزيّن، وأمّا ما ورد في السنّة من لعن الواصلات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن فممّا أشكل تأويله.
وأحسب تأويله أنّ الغرض منه النهي عن سمات كانت تعدّ من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلاّ فلو فرضنا هذه مَنهيًّا عنها لَما بلغ النهي إلى حدّ لَعن فاعلات ذلك.
وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنّما يكون إنما إذا كان فيه حظّ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لِنحلة شيطانية، كما هو سياق الآية واتّصال الحديث بها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله} هذه خمسة أقسم إبليس عليها: أحدها: اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم.
والثاني: إضلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها.
والثالث: تمنيته لهم وهو التسويل، ولا ينحصر في نوع واحد، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك، وهي كلها أماني كواذب باطلة.
وقيل: الأماني تأخير التوبة.
وقيل: هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب.
وقال الزمخشري: ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، ونحو ذلك انتهى.
وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله.
والرابع: أمره إياهم الناشئ عنه تبتيك آذان الأنعام، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن.
وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله: عكرمة، وقتادة، والسدي.
وقيل: فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملًا بفطرته، فجعل الإنسان ناقصًا بسوء تدبيره.
والخامس أمره إياهم الناشئ عنه تغيير خلق الله تعالى.
قال ابن عباس، وابراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
أراد تغيير دين الله، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} أي لدين الله.
والتبديل يقع موقعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه.
ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر، ومعناه: النهي.
وقالت فرقة منهم الزجاج: هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة، وغير ذلك مما عبدوه.
وقال ابن مسعود، والحسن: هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين، فمن ذلك الحديث في: «لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة» انتهى.
وقال ابن عباس أيضًا وأنس، وعكرمة، وأبو صالح، ومجاهد، وقتادة أيضًا: هو الخصاء، وهو في بني آدم محظور.
وكره أنس خصاء الغنم، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل.
وقيل للحسن: إن عكرمة قال؛ هو الخصاء قال: كذب عكرمة، هو دين الله تعالى.
وقيل: التخنث.
وقال الزمخشري: هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى.
وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام، فناسب أن يكون التغيير هذا.
وقيل: تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه.
وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سببًا للتناسل على وجه مخصوص، فاستعان به في السفاح واللواط، فذلك تغيير خلق الله.
وكذلك المخنث إذا نتف لحيته، وتقنع تشبهًا بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان.
وكل ما حلله الله فحرموه، أو حرمه تعالى فحللوه.
وعلى ذلك: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا} وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، ولهذا قالوا: هو تغيير أحكام الله.
وقيل: هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي.
وقيل: خضاب الشيب بالسواد.
وقيل: معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان، وشق المناخر، وكل العيون، وقطع الأنثيين.
ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما هو خاص في التغيير، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر.
وفي حديث عياض المجاشعي: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي».
ومفعول أمر الثاني محذوف أي: ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن.
وحذف لدلالة ما بعده عليه.
وقرأ أبو عمرو: ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن عطية.
وقرأ أبي: وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى.
فتكون جملًا مقولة، لا مقسمًا عليها.
وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة، بدأ أولًا باستخلاص الشيطان نصيبًا منهم واصطفائه إياهم، ثم ثانيًا بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر، ثم ثالثًا بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة، ثم رابعًا بتبتيك آذان الأنعام، هو حكم لم يأذن الله فيه، ثم خامسًا بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم.
وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجًا تحت عموم التغيير، ليكون ذلك استدراجًا لما يكون بعده من التغيير العام، واستيضاحًا من إبليس طواعيتهم في أول شيء يلقيه إليهم، فيعلم بذلك قبولهم له.
فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه: يأمره أولًا بشيء سهل، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه.
وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها يقتضي علم ذلك، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى.
{لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قولُ من قال: معناه: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}، قال: دين الله. وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة الروم: 30].
وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه: من خِصَاءِ ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه وَوشْرِه، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كلِّ ما أمر الله به. لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته. فذلك معنى أمره نصيبَه المفروضَ من عباد الله، بتغيير ما خلق الله من دينه.
قال أبو جعفر: فلا معنى لتوجيه من وجَّه قوله: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}، إلى أنه وَعْد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض، أو بعض ما أمر به دون بعض. فإن كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره، إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام، فإن في قوله جل ثناؤه إخبارًا عن قيل الشيطان: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام}، ما ينبئ أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه. لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وَعْد الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسَّرًا، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يُترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر، وبالخاص عن العام، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعام عن الخاص. وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام، أولى من توجيهه إلى غيره، ما وجد إليه السبيل. اهـ.

.قال القرطبي:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} أي لأصرفنّهم عن طريق الهدى.
{وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي لأُسَوِّلنّ لهم، من التّمنِّي، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأُمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنِّيه بقدرِ رغبته وقرائن حاله.